المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لــمــاذا لايـمـوتـون الـشـهــــــــــداء


algnoubalarabi
11-21-2007, 10:00 PM
[ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون". هذه الآية الكريمة التي اعتدنا تردادها مع سقوط كل شهيد من شهدائنا الأبرار على مدى تاريخنا الموغل في الزمن قهراً ومقاومة في آن، لا تصف حال الشهداء في الآخرة ومقامهم فيها فقط، بل تشكل وصفاً صادقاً لحالهم بيننا نحن الأحياء، وهو وصف يتعدى حجم الانجاز الذي يحققونه بدمهم على المدى الطويل من تحرير للأرض وحفظ لكرامة الانسان، وحفظ لهويتنا التي لا يمكن أن نستمر من دونها، وصون لحقوقنا وحقوق أبنائنا، الى ما هنالك من انجازات يحققها دم الشهادة.. ذلك أن الشهيد عدا عن كل الأموات يمتلك مقدرة خاصة على الاستمرار في الحياة عند موته، يعجز عن مقاربتها أصحاب الانجازات الكبيرة في مختلف ميادين الحياة. وهكذا فإن الشهيد الذي يرحل عن دنيانا لا يكف عن التواصل الفعّال مع أهله وأحبائه ذكراً ومثالاً وقدوة فكيف يمكن لصدمة الفقد أن تتحول إلى ينبوع ديمومة واستمرار؟ وما هي الأمداء التي يمكن أن تصل اليها تلك الاستمرارية والبقاء؟ وكيف يمكن أن نستثمر تلك الديمومة الروحية في البناء الايجابي لحياة من يرتبط بالشهيد أسرة وأحبة؟

مواساة
يحدث فقد الأعزاء صدمة عنيفة لا يمكن النجاة من آثارها بسهولة، وخصوصاً إذا ما حدث فقدهم وهم لا يزالون في ربيع العمر، أي في الفترة التي يستبعد فقدهم فيها، حيث يكون المحيطون غير مستعدين لواقع صعب كهذا، ولأن الوفاة غالباً ما تقع على الفرد وقعاً لا يكون له أي خيار في حدوثها أو صدها، فإن أكثر ما يحدث الألم للمحيطين بالفقيد، إحساسهم القاسي بالاحباط الذي مني به الميت نفسه وكل من يعقد الأمل على حياته، فالموت خطفه قبل أن يحقق مبتغاه من الحياة وقبل أن تحقق الآمال المعقودة على حياته بالنسبة للآخرين. وقبل أن يشبع بأدني حد رغبته الشخصية في الحياة نفسها. وهذا ما لا يحدث عند الاستشهاد، لأن الشهيد يقع على الموت اختياراً يؤكد رغبته فيه مقابل إعراضه التام عن الدنيا بكل ما تستدعيه الحياة فيها من مخططات، وعدم طمعه بأي من الاشباعات التي توفرها، هذا الفارق الجوهري بين النهايتين يشكل حجراً تتأسس عليه مواساة هامة للأقارب والأعزاء، فالشهادة مُنية الشهيد ونهاية الحياة معها لا تشكل احباطاً لمخططاته، بل هي تجلّ واقعي للاشباع الكامل الذي يطلبه الشهيد من مشروع حياته.

حزن مقدس
كل ذلك لا يلغي ما يورثه نبأ الموت من شعور عميق بالحزن والكآبة لدى أهل الفقيد، لاتصال تلك المشاعر الوثيق بمفردات الحب والوفاء التي تسود العلاقات الأسرية خصوصاً، وهي مشاعر لا يرتجى الغاؤها بأي حال من الأحوال، لأنها مشاعر حميدة المظاهر والآثار في الغالب، لا يخشى أن توقع الأهل أو حتى الأبناء في مستنقع السوداوية، والشعور بالظلم والنقمة على الحياة واليأس من الدنيا.. لأن مشاعر العداء للحياة التي يولدها موت الأحبة عادة، تتوجه في هذه الحالة نحو عدو خارجي كان وجوده السبب الأساسي في اختيار الشهيد لنهج المقاومة والاستشهاد.
يضاف إلى القيمة الذاتية التي يكتسبها الشهيد بفضل مصداقية حركته، والقيمة المعنوية التي توهب له بفضل تشريفه الالهي بالشهادة، القيمة الاجتماعية العالية التي تضاف اليه، لارتباطه كشهيد بقضايا المجتمع والانسان، الأمر الذي يجعل شهادته تتحول من قضية فردية تعني عدداً محدوداً من الأفراد، إلى قضية جماعية تمس المجتمع والأمة بل كل انسان، وفي الاحساس الجماعي بوطأة الفقد تخفيف نفسي من آلامه ومواساة وجدانية عميقة الأثر في الأسرة وفي نفوس كل الأحبة، هذا عدا عما تقدمه المواجهة الجماعية للمحنة ـ وهذا ما يحدث غالباً عند تلقي نبأ الشهادة بكل تبعاته ـ من عناصر مساعدة لتخطي الصدمة وتسهيل تقبلها كواقع معترف بقساوته، ولكنه جميل يعتز أهل الشهداء في استحضاره في كل حين، ويشجعون على ذلك لاتصاله بقيم الجماعة. ولا يخفى ما لتذكر الراحلين من عزاء نفسي لمن فقدوهم.

ديمومة واقعية
اذا كانت التجارب القاسية التي يمرّ بها الفرد والجماعة هي المدرسة التي يتعلم فيها الانسان عادة كيف يستحق الحياة وكيف يحياها حقاً، فإن الموت واحد من أهم التجارب وأبعدها أثراً وأغناها بالفوائد للفرد والمجتمع، والشهادة بوصفها نهاية للحياة الدنيا، واحدة من التجارب التي عايشها الأهل والأحبة، تجربة وجودية عميقة تصهر أرواح كل من وقع في أتونها وتجعلها أكثر صفاءً وشفافية لرؤية الحياة على حقيقتها بما فيها من زيف تارة، وبما تتطلبه من تحد تارة أخرى، وبما تستحقه من تضحية لتعاش بالشكل الأفضل والأكرم، وبما تمثله من نعمة جديرة بالدم ليصونها، وبما تحتويه من جمال يتمرد على القبح الذي يحاول الغاؤه ظلماً وعدواناً. واذا كان فقد أحد الأحبة يخلق في نفوس المعنيين شعوراً بالزهد بالحياة فإن ذلك الزهد غالباً ما يترجم حرصاً على الحياة الطيبة الغنية بالمعاني، حيث تتماسك الأسر التي تفقد أحد أعزائها بالشهادة خصوصاً، وتصبح أكثر حرصاً على تأدية واجباتها الدينية، وأكثر التفاتاً لقيم المحبة والتسامح والتعاضد والألفة وما إلى ذلك من عناوين تعلي من قيمة الحياة في جوهرها الانساني الأسمى.. فضلاً عن أنها تصبح أكثر إيماناً بالحياة كقيمة لأنها ذاقت طعم الفقد المر، وهي أمور تنطبق على الفرد والأسرة والعائلة أيضا .