المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الوحدة اليمنية لعبة سياسية على قاعدة الشطرنج ...


طائر الأشجان
05-17-2009, 07:28 AM
لا تبدو المفارقة بعيدة بين لعبة الشطرنج والوحدة اليمنية في واقعها وملابساتها ، ويمثل الذكاء السياسي قاسماً مشتركاً لطرفي هذه المعادلة منذ بداية الحكاية في ستينيات القرن المنصرم ، مضافاً إليها جملة من المصالح الفردية - والوطنية في نظر البعض - وسنأتي على تفاصيل هذه المصالح في أتون هذه العجالة .


للتطرق لموضوع كهذا فإنه يلزمنا تأليف كتاب ، لنغوص في تشعبات يتوجب استحضارها ، تحكي أدواراً لأشخاص أو أسهمت في تشكيل حدث ، لكننا وبالقدر الذي تسمح به حدود المقالة سوف تختزل ما نود طرحه ما أمكننا ذلك .

إن أخطاءاً فادحةً يرتكبها السياسيون وصُنّاع القرار بدوافع وطنية ، يسبقها حسن الظن ، تُشكل قنابل موقوتة قابلة للإنفجار في أي لحظة من لحظات الزمن ، وهو ما ينطبق تماماً على الصورة في جنوب شبه الجزيرة العربية ، ففي العام 1960 بدأت حركة الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني بقيادة " الجبهة القومية لتحرير الجنوب العربي المحتل " بزعامة قحطان محمد الشعبي المتواجد حينها في القاهرة ، ونتيجة لوجود تيار مقاومة على الساحة يتمثل في " جبهة التحرير " بزعامة عبدالقوي مكاوي - ولم يكن يحظى بتأييد الغالبية في الريف على وجه الخصوص - فقد اعتنقت الجبهة القومية الفكر الناصري وانتهجت أيديولوجية مستوردة في إطار حركة القوميين العرب ، سبيلاً للحصول على دعم مصر العسكري ، على غرار ما تقدمه للنظام في الجمهورية اليمنية ، وباقتراح من عبدالناصر رحب قادة النضال في الجنوب العربي بالإنضواء تحت راية يمنية تسهم في ضم الجنوب العربي إلى الجمهورية اليمنية في المستقبل كخطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة ، التي كانت حلماً راود الرئيس جمال حتى أتاه اليقين ، وبمقتضى ذلك تغير مسمى الحركة ليصبح " الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل " وبهذا تم زرع أول قنبلة موقوتة في جسم الثورة على يد أبناء الجنوب أنفسهم ، وبوصاية رئيس دولة أجنبية ، ويتكرر المشهد ذاته بزرع قنبلة ثانية بوصاية الرئيس صدام حسين ( الذي أشار على البيض بالتعجيل في إبرام اتفاقية الوحدة لأن معلومات استخباراتية تؤكد عودة الرئيس علي ناصر ومؤيدوه إلى ساحة المعركة - تصريحات البيض - وهكذا يعيد التاريخ نفسه في مشهد درامي ، إنما هذه المرة بسكين حادة في خاصرة الجنوب ، بما أسفرت عنه من تداعيات جسدت المأساة في أبشع صورها ) .

لم يعر حكام الجنوب العربي مشروع الوحدة أدنى إهتمام منذ نيلهم الإستقلال في العام 1967م وحتى عام 1986م ( 19 عاماً ) عدا ترديده كشعار حرصَ على تغذيته عناصر يمنية كانت قد وصلت إلى مراكز حساسة في الدولة مثل : عبدالفتاح اسماعيل ، وراشد محمد ثابت ، ومحسن الشرجبي وغيرهم ، وعمد على ترسيخها إعلامياً كافة الكتاب الذي ينتمي معظمهم إلى اليمن مثل جار الله عمر ، وعمر الجاوي ، ولطفي السماوي .. وغيرهم ، وقد كان حماس النظام في صنعاء أكثر خفوتاً من نظيره في عدن ، بل يكاد يكون منعدماً ، غير أن فكرة قلب نظام الحكم نية مبيتة تراود كل طرف ، وحرب باردة تخللتها أعمال تخريب هنا وهناك ، تسخن أحياناً في شكل مواجهات عسكرية على طول الشريط الحدودي ، وكثيراً ما استُخدم فيها سلاح الجو .
أما الحقيقة التي يدركها رجال الدولة في صنعاء وعدن هي انهم يقفون على رقعة من الشطرنج ، ويحركون قطع اللعبة وفقاً لمصلحة كل طرف ، وقد سقطت سهواً من فم المهندس حيدر أبو بكر العطاس عبارة ( كش ملك ) التي هي إحدى مصطلحات لعبة الشطرنج ، وبأن البيض - سامحه الله - عمد إلى هذه الحركة متجاوزاً مبدأ التشاور ، لقد قفزت هذه الجملة من مخزون العقل الباطن ، ذلك لأنه ورفاقه كانوا طرفاً في اللعبة ، وهي كذلك في كل زمانٍ ومكان .

يعمدُ طبيب الأمراض النفسية إلى تجريد الحالة من عواملها الخارجية ، ليصل إلى جوهرها ، بعيداً عن الرتوش المتراكمة بفعل ظروف الزمان والمكان والأحداث بما تمثله من قهر وتعسّف ، وهذا ما نحاول إسقاطه على طبيعة النظامين في كل من اليمن ( صنعاء ) والجنوب العربي ( عدن ) في محاولة لتشخيص هوية كل نظام ، والنظر إلى تركيبته من الداخل .. ولعلنا نبدأ بنظام صنعاء باعتباره الأقل تعقيداً والأكثر سهولةً من نظيره في عدن فنقول :
هيمنت عقلية العشيرة على طبيعة الفرد في المجتمع اليمني ، وأصبح الإنتماء إليها والولاء لها فرضاً لازماً ، وأصبح شيخ القبيلة مثالاً يُحتذى ، يأمر فيُطاع ، وهو السلطة المطلقة في نظام القبيلة ، وتظم مملكته الصغيرة سجناً يؤوي المذنبين ، وقوة عسكرية قوامها الدبابات والمدفعية ، بالإضافة إلى قطع الكلاشنكوف المحمولة على كتف كل فرد في القبيلة ، وحيازتها بعلم الدولة ، ويقوم الشيخ بجباية الضرائب على المنتجات الزراعية وفي مقدمتها القات والبن ، ، وهي مصدر تمويل خزينته إضافة إلى المخصص المتعارف عليه من وزارة المالية بصورة ثابتة ونظامية ، وساعد تدني الإهتمام بالتعليم على تفشي الأمية ، وقبول الفرد بوضعه الإجتماعي دون تطلعات إلى الأفضل مستسلماً لحظهِ من هذه الحياة الدنيا ، أما النظام الحاكم فقد أبدع في التعاطي مع شيوخ القبائل بتمكينهم من السلطة والجاه في مناطق نفوذهم ، مقابل التعايش السلمي ، وحسبي أن في هذا سر بقائه طيلة عقود الماضي ، فعلي عبدالله صالح قام بدور شيخ المشائخ في ثياب رئيس الدولة ، ساعده في ذلك التمويل السعودي اللامحدود ، والذي كان يتولى عملية الموازنة في الإنفاق بتحمّل كافة أعباء الميزانية العامة للدولة ، هذا الدعم ناتج عن الحسابات السعودية بضرورة إبقاء اليمني في هذه القوالب المأمونة ، دون السماح لتيارات تأتي من الجنوب بهدف التغيير الذي قد يضر بها كدولة جوار ، ووجدت في علي عبدالله صالح مثال الطاعة العمياء ، وفي عبدالله بن حسين الأحمر غايتها المُثلى .

ذكرنا بأن الصورة في الجنوب العربي تبدو أكثر تعقيداً ، وهي كذلك بالفعل ، وسنعرج على الخطوط العريضة التي تشكلت منها معالم هذه الصورة فنقول :

لا ينكر قادة الجبهة القومية وهم يحققون النصر باستقلال بلدهم فرحتهم المشوبة بالخوف على مصير هذا الإنجاز التاريخي العظيم ، وكونهم يخوضون مجال الحكم دون سابق تجربة ، كان الشك في إخلاص البعض يدعو إلى الحذر ، وتسابق الجميع في مضمار الولاء والطاعة للوطن ، وأن لا تتركز الصلاحيات في يد الفرد الواحد لأنه بذلك سيعيد حكم السلطان ، وتذهب الديمقراطية أدراج الرياح ، ولهذا كان القضاء على قحطان الشعبي ومن بعده سالم ربيع علي ، واستمرت التجمعات والتكتلات ، وأظهرت ولاءاً لأشخاص وضعوا في أجندتهم تصفية الخصم جسدياً مما زاد من تفاقم الأوضاع وخروجها عن السيطرة في 13 يناير 1986م .

إن ما أسفرت عنه أحداث يناير كان فرصةً أهدتها عناية القدر على طبقٍ من ذهب إلى نظام صنعاء الذي طالما حلمَ بمثل هذه الفرصة ، وتمنى حدوثها ، ولا أعتقد أن هذا الحدث في بدايته قد تعدى جانب التشفي والإنتقام من جانب نظام صنعاء للهزائم المتلاحقة التي مُني بها على أيدي قوات الجنوب في سبعينيات القرن الماضي ، لكن الطمع في التهام الغنيمة دفع بالنظام في صنعاء إلى وضع الطبخة على نارٍ هادئة ، فلم يعد من داعٍ للإستعجال واللقمة في أيديهم ، لم يبق إلا طريقة أكلها ، إما بالشوكة والسكين على الطريقة الأوروبية ، أو باليد اليمنى على الطرية الإسلامية ، واقتسام الغنيمة هل سيؤلب القبائل لنيل حصتها ، أم ستكتفي بالفُتات ، وكيفية الخلاص من الجنوبيين إنه مادة التداول في كل مجلس قات ، هل يتم ضرب الخصم بالخصم ( فما زالت معسكرات علي ناصر محمد رغم اتفاقية الوحدة على أتم استعداد في انتظار إشارة من إصبع الرئيس ، وهو الذي أبقى على وجودها ولم يسمح بضمها إلى الجيش أو صهرها ضمن المعارضة ، لأنه يدرك الحاجة إليها في الوقت المناسب ، ولأن هذا جزؤ من قواعد اللعبة التي باتت قطعُها أسهل تحريكاً في اتجاه " الكش ملك ") .

ظهر جلياً بعد حرب 94م التي دامت أكثر من شهر شاركت فيها عناصر جنوبية بفعالية في مؤازرة ما يسمى بالشرعية ، في ظاهرها الدفاع عن الوحدة ، وفي باطنها تصفية حسابات ، ظهر جلياً الإنعدام التام لأسس الوفاق ، وأن هذه الوحدة بمرتكزاتها السطحية ، وجدارها الهش ، يمكن أن تذهب مع الريح ، وأن لجوء النظام اليمني إلى فرضها بالقوة إنما يعكس مدى إدراكه لجملة من الحقائق أهمها حتمية الإنفصال ، على خلفية الهوة السحيقة بين ثقافة النظامين ، والتي شكلت صدمة لأبناء الجنوب المعتادين على نمط تقدمي ، لا يتفق وفوضى الحياة الجديدة ، وعبثية القانون لدى السلطات القضائية والتنفيذية ، وانعكاس ذلك سلباً على مكونات المجتمع بأسره .

واليوم ونحن على أعتاب المصير المجهول ، لا بد لنا من وقفة شجاعة ، وصريحة مع الذات ، والإعتراف بفشل تجربة الوحدة ، التي دخلت في نفق مظلم بفعل حسابات خاطئة ، وتناقضات جمه ، وإعادة الكيان المستقل لدولة الجنوب ، وهي النتيجة التي لا مفر منها بعيداً عن المزايدات ، وهو ما سمعناه من فم المهندس حيدر أبو بكر العطاس في لقائه يوم أمس على قناة الحرة ، والرجل يرى ذلك بعيون متمرسة ، تدرك الخطورة المترتبة على سياسة " كش ملك " .


تحياتي
طائر الاشجان