المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إلى المربع الأول من مصر... إلى اليمن!- بقلم:جورج سمعان


nsr
11-28-2011, 09:12 AM
[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات]


خطا اليمن خطوة أولى في طريق طويل. يستحسن ألا يستعجل المتفائلون بثمار الربيع العربي، كما فعلوا حتى الآن. توقعوا أن تنضج سريعاً، وأن تخلو الساحات والميادين
من أهلها، وأن يعود كل شيء إلى سيرته الأولى. أُصيبوا بخيبة وهم يشاهدون ما يجري في البلدان التي تخلصت من رأس النظام، وتلك التي تنتظر. المصريون اكتشفوا باليقين القاطع أن ثورتهم لم تصل إلى غاياتها. أطاحوا الرئيس أما النظام فينبعث مجدداً على أيدي أهله وحماته: المجلس العسكري للقوات المسلحة والقوى التقليدية التي عاصرت أزمنة العسكر مهادنة تارة ومواجهة تارة أخرى. وها هي الثورة تعود إلى المربع الأول. وقد لا تشكل الانتخابات البرلمانية مفصلاً أو قطيعة مع النظام البائد... وإن كان «الإخوان» يأملون ذلك ويخططون.
اليمنيون على خطى إخوانهم المصريين. شباب الساحات شعروا باكراً بأن خيوط اللعبة تفلت من بين أصابعهم. ركبت القطار على عجل قيادات أحزاب «اللقاء المشترك»، وعلى رأسها زعماء «تجمع الإصلاح» بجناحيه «الإخواني» والعشائري. ولحق بهم بعض أركان حزب المؤتمر الحاكم فكتائب من الجيش والقوى الأمنية... ثم «الحراك» الجنوبي والحوثيون. وعبر الشباب باكـــراً أيضاً عن رفضهم بعض رموز المنصات الخطــــابية وشعاراتها. كما عبروا عن انزعاجهم من محاولات المساومة لإيجاد مخرج يعيد إنتاج النظام السابق بحــلة جديـــدة. لذلك، لم يخـــفوا تحفظهم عن المبادرة الخــليجية. وبالتأكيد لم ترق لهم صورة معارضين يوقعون على الاتفاق مع رؤوس النظام. فهؤلاء، سياسيين وعسكريين، كانوا لسنة خلت من أركان النظام وعصبه وعصبيته السياسية والقبلية والعسكرية وحتى الجهوية.
المشكلة التي تواجه ثورة مصر اليوم تواجه ثورة اليمن أيضاً، وإن اختلف اللاعبون وهوياتهم ومواقعهم وتركيباتهم. لم يثر المصريون ولم يثر اليمنيون من أجل إعادة إنتاج النظام القديم في أشكال جديدة، ووجوه قديمة جديدها أنها وقفت في وجه الرئيس وحكمه. من هنا اندلاع الصراع بين المجلس العسكري في مصر وشباب الثورة، صراع قسم شباب الساحات حتى تواجهت هذه في صفوف متقابلة. لأن كثيرين ممن ركبوا الموجة هم من تركة النظام القديم الذي يعبر عنه المجلس خير تعبير. فضلاً عن بعض القوى الإسلامية التي لم تصدق أنها باتت حرة في التعبير عن رأيها، وأنها تملك القدرة ربما على وراثة الحكم. ومثلها تماماً بعض القوى التي شايعت الرئيس علي عبدالله صالح دهراً ثم انقلبت عليه وركبت موجة الشباب في الساحات والميادين. وهي تستعد لوراثته.
منذ اليوم الأول بادر الجيش المصري إلى أخذ الثورة بيديه. لم يقف على الحياد. مارس دوره الوطني التاريخي الموروث من ثورة أحمد عرابي في عام 1881 وحتى ثورة 23 يوليو في عام 1952. لم يتلكأ في الانحياز إلى الشباب على حساب نظام حسني مبارك وحزبه الحاكم برجال أعماله وأمنه وأركان فساده. تصرف على أساس أنه حامي الدولة وليس السلطة. انحاز إلى الثورة، مثلما انحاز إليه الشعب عندما قاد ثوراته السابقة. لكن الشهور التالية لم تظهر ضعف أركان المجلس العسكري في ممارسة السياسة فحسب، بل أظهرت ميلاً متوارثاً إلى ممارسة السلطة، إن لم نقل ولعاً بها. فات أركان المجلس أن الذين أطاحوا مبارك لن يسكتوا على قيام أكثر من مبارك، من المشير إلى الجنرالات الآخرين. فاتهم أن الظرف التاريخي الذي جعلهم مصدر القيادة لم يعد قائماً. وأن الأوضاع التي ولدتها أيامُ المواجهة مع الاستعمار البريطاني، ثم أيامُ الحرب البـــاردة وحـــروب 1956 و1967 والاستنزاف و1973... هي غيرها أيامُ ثورة المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة وشيوع مفاهيم حقوق الإنسان والحريات التي شكلت قوى أين منها قوى السلطات الحاكمة.
مرد ضعف الشباب في مواجهة اصطفاف العسكر والأحزاب التقليدية إلى الوقت. لم يتح لهم فرصة فرز قيادات وبنى حزبية أو تنظيمية قادرة على إقامة هياكل جديدة تشكل بدائل لهياكل النظام المتداعية. وكما في مصر كذلك في اليمن، لم يستطع الشباب هيكلة صفوفهم كما يحبون ويرغبون. فلا الثوار أنتجوا زعامة أو رمزاً يقودهم إلى النهايات القاطعة مع الماضي، ولا هم انخرطوا في تشكيلات حزبية يعتد بمواقفها السياسية، وبجنوحها إلى قيم الحداثة والعصر عموماً. قوى أخرى قفزت إلى القطار وتحاول «خطفه» إن لم يتسنَّ لها حرفه عن مساره.
لم يكن بمقدور الشباب، في مصر كما في اليمن، أن يعترضوا على انخراط الأحزاب والقوى التقليدية في حراكهم. مدّتهم هذه بمزيد من القوة... والحشد. لذلك، يصعب عليهم دفع هذه القوى إلى التماهي معهم أو جرها إلى مواقعهم. هي صنو النظام الذي تصارعت معه يوماً وتآلفت معه يوماً آخر. ولم تجد غضاضة في مجاراته ومحاباته أحياناً كثيرة، على رغم أن بعضها عانى ما عاناه من سجن وتشريد ونفي. مشكلة الشباب أنهم بلا تجربة سياسية. رحبوا بموقف المجلس العسكري المنحاز إليهم ما عجّل برحيل رأس النظام، لكنهم لم يتوقعوا هذا الثمن الفادح لموقفه. لم يحسبوا أن تخلص المؤسسة من رأس النظام كانت له حسابات أخرى تتعلق بتاريخ المؤسسة ودروها التاريخي. بعض «الإخوان» والقوى التقليدية يعرفون هذا التاريخ، ويلعبون في ضوء هذه المعرفة لعبتهم الخاصة بالتغيير.
يبدو الطريق طويلاً أمام المصريين للخروج من قيد ثنائية العسكر والأحزاب التقليدية التي ما فتئت تخشى سطوة جنرالات الجيش وأجهزة الأمن، أو تراهن على صفقة معهم لتقاسم السلطة بدل اقتسامها مع طليعة الذين أشعلوا شرارة التغيير. أما شباب اليمن فطريقهم تبدو أطول. فالهيكل الثوري قام ويقوم على أكثر من دعامة تغلب فيها قوى التقليد. يكفي أن التسوية الخليجية التي توافق عليها الأطراف قبل أيام أنتجت تقاسماً للسلطة. ويعرف شباب الميادين من صنعاء إلى تعز والمدن الأخرى أن هذا التقاسم يعني بصورة أخرى إعادة إنتاج للنظام السابق بالوجوه نفسها. فحكومة الوحدة الوطنية تعني محاصصة بين أركان الحزب الحاكم والمعارضة التي كان جل أقطابها إلى سنة خلت مكوناً رئيساً من أركان نظام الرئيس علي عــبدالله صـــالح. كــما أن إعـــادة هيكلة المؤســسة العسكرية ستبقي على الهياكل التي كانت دعامة النظام وتفرقت وراء أركانها المختلـــفين: هؤلاء لحماية السلطة والدســتور، وأولئك لحمـــاية صفوف الــمعارضــة والمعتصمين في الساحات.
يعرف شباب اليمن أن توازن القوى هو الذي أوصل الحراك إلى هذه التسوية، وليس إلى التغيير الشامل الذي يرتأون. كانوا يعرفون بلا شك أن قادة «اللقاء المشترك» الذين نقلوا سريعاً شراكتهم مع النظام الحاكم إلى الساحات والميادين، سيعودون إلى الشراكة مع الحزب الحاكم. كأن الصراع لم يكن على تغيير النظام بمقدار ما كان على وراثة السلطة! وإذا كانت قوى «اللقاء» يرتاب بعضها من بعض آخر، بفعل الثقل «الإخواني» والقبلي الذي يمثله «تجمع الإصلاح»، فإن أهل الجنوب وأهل صعدة شعروا من البدايات الأولى للحراك بأنهم مهمشون في صراع «الثنائية» الشمالية التي أطبقت على الميادين سياسياً وعسكرياً.
وإذا أصيب شباب ساحات صنعاء وتعز بالخيبة، مثلما شعر شباب القاهرة والإسكندرية، فإن أخطر ما سيواجه حكومة اليمن التي سيقودها محمد سالم باسندوة ليس هذه الخيبة فحسب، وليس «ثنائية» الصراع بين أهل الشمال. التحدي أمام الحكومة العتيدة ألا تستكين للشراكة المتجددة مع حزب المؤتمر. عليها أن تشرع الأبواب لسماع أصوات كل أطياف المعارضة. أن تقنع أهل «الحراك الجنوبي» بأنها على استعداد للبحث في معالجة ما كان يشكو منه الجنوبيون منذ الوحدة عام 1990، من سياسة الإقصاء والتهميش والتمييز والحرمان وغياب المساواة. وبأنها جادة في إشراكهم في القرار السياسي فلا يظل تحت رحمة «الشراكة» الجديدة وسلطة القبائل ورجال الدين والمتنفذين. فإذا كان الجناح الجنوبي المتشدد (علي سالم البيض) ينادي بالانفصال أياً كان مآل أوضاع التسوية، فإن جناح الاعتدال من «مجموعة القاهرة» (علي ناصر محمد وحيدر أبو بكر العطاس) قد لا يجد بداً من المطالبة بحق تقرير المصير بعد ثلاث أو خمس سنوات من اختبار التجربة الجديدة.
أما الحوثيون الذين التحقوا هم أيضاً بالساحات والميادين فيرتابون من المستقبل. لم ينسوا - حالهم حال أهل الجنوب - أن معظم أهل «الشراكة» الجديدة في الحكومة المنتظرة كانوا أركان الحروب الستة على صعدة، مثلما كانوا رأس الحرب في مواجهة انفصال الجنوب عام 1994. ولا شك في أن الحوثيين يشعرون اليوم، كما أهل «الحراك الجنوبي» بأنهم باتوا أقوى في ظل انقسام صنعاء أو «الشراكة» الجديدة لثنائيتها. وهم يريدون «حصتهم» المعتبرة إذا استحال عليهم حكم ذاتي في أقصى شمالهم.
سيطول الطريق إلى اليمن «السعيد» إذا لم تقد الحكومة المنتظرة ثورة الشباب إلى التغيير الحقيقي. فمواقيت التسوية طويلة بخلاف مواقيت التغيير في مصر التي تتقدم إلى انتخابات يفترض أن تحدد وجهة القطار... هل تختصر صنعاء المرحلة الانتقالية وتؤسس لقوة ثالثة قادرة على التغيير الفعلي، أم تظل رهن «ثنائية» كتبت لها التسوية عمراً آخر؟
" الحياة " اللندنية